فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: هي كل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حدّ وترك فريضة تجب فورًا والكذب في الشهادة والرواية واليمين، زاد الهروي وشريح وكل قول خالف الإجماع العام، وقيل: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة وهو المحكي عن إمام الحرمين، ورجحه جمع لما فيه من حسن الضبط، وتعقب بأنه بظاهره يتناول صغيرة الخسة، والإمام كما قال الأذرعي إنما ضبط به ما يبطل العدالة من المعاصي الشاملة لذلك لا الكبيرة فقط، نعم هو أشمل من التعريفين الأولين، وقيل: هي ما أوجب الحدّ أو توجه إليه الوعيد ذكره الماوردي في فتاويه، وقيل: كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه فإن فعله على وجه يجمع وجهين أو وجوهًا من التحريم كان فاحشة، فالزنا كبيرة وبحليلة الجار فاحشة والصغيرة تعاطي ما تنقص رتبته عن رتبته المنصوص عليه.
أو تعاطيه على وجه دون المنصوص عليه فإن تعاطاه على وجه يجمع وجهين أو أكثر من التحريم كان كبيرة فالقبلة واللمس والمفاخذة صغيرة، ومع حليلة الجار كبيرة كذا نقله ابن الرفعة وغيره عن القاضي حسين عن الحليمي، وقيل: هي كل فعل نص الكتاب على تحريمه أي بلفظ التحريم وهو أربعة أشياء، أكل الميتة، ولحم الخنزير، ومال اليتيم، والفرار من الزحف ورد بمنع الحصر، وقيل: إنها كل ذنب قرن به حدّ، أو وعيد أو لعن بنص كتاب أو سنة أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به ذلك أو أكثر أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعارًا صغر الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل من يعتقده معصومًا فظهر أنه مستحق لدمه أو وطىء امرأة ظانًا أنه زان بها فإذا هي زوجته أو أمته، وإليه ذهب شيخ الإسلام البارزي وقال: هو التحقيق؛ وقيل: غير ذلك، واعتمد الواحدي أنها لا حدّ لها يحصرها فقال: الصحيح أن الكبيرة ليس لها حدّ يعرفها العباد به وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها ولكن الله تعالى أخفى ذلك عنهم ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر، ونظير ذلك إخفاء الاسم الأعظم والصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة، وقال العلامة ابن حجر الهيتمي: كل ما ذكر من الحدود إنما قصد به التقريب فقط وإلا فهي ليست بحدود جامعة، وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه؟ وذهب جمع إلى تعريفها بالعدّ، فعن ابن عباس أنها ما ذكره الله تعالى في أول سورة النساء إلى قوله سبحانه: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31].
وقيل: هي سبع وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وعطاء وعبيد بن عمير، واستدل له بما في الصحيحين «اجتنبوا السبع الموبقات: الإشراك بالله تعالى. والسحر. وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق. وأكل مال اليتيم. وأكل الربا. والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وقيل: خمس عشرة، وقيل: أربع عشرة، وقيل: أربع، وعن ابن مسعود ثلاث، وفي رواية أخرى عشرة، وقال شيخ الإسلام العلائي: المنصوص عليه في الأحاديث أنه كبيرة خمس وعشرون، وتعقبه ابن حجر بزيادة على ذلك، وقال أبو طالب المكي: هي سبع عشرة أربع في القلب الشرك والإصرار على المعصية والقنوط والأمن من المكر، وأربع في اللسان القذف وشهادة الزور والسحر، وهو كل كلام يغير الإنسان أو شيئًا من أعضائه واليمين الغموس وهي التي تبطل بها حقًا أو تثبت بها باطلًا، وثلاث في البطن أكل مال اليتيم ظلمًا وأكل الربا وشرب كل مسكر، واثنان في الفرج الزنا واللواط، واثنتان في اليد القتل والسرقة، وواحدة في الرجل الفرار من الزحف، وواحدة في جميع الجسد عقوق الوالدين، وفيه ما فيه، وروى الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رجلًا قال له: كم الكبائر سبع هي؟ فقال هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار، وقد ألف فيها غير واحد من العلماء، وفي كتاب الزواجر تأليف العلامة ابن حجر ما فيه كفاية فليراجع، والله تعالى الموفق وإنا لنستغفره ونتوب إليه {إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة} حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، فالجملة تعليل لاستثناء اللمم، وتنبيه على أن إخراجه عن حكم المؤاخذة ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية، وجوز أن يكون المعنى له سبحانه أن يغفر لمن يشاء من المؤمنين ما يشاء من الذنوب صغيرها وكبيرها، ولعل تعقيب وعيد المسيئين ووعد المحسنين بذلك حينئذٍ لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته تعالى ولا يتوهم وجوب العقاب عليه عز وجل، وزعم بعض جواز كون الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره والرابط محذوف أي {واسع المغفرة} لهم ليس بشيء كما لا يخفى.
{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} أي بأحوالكم من كل أحد {إِذْ أَنشَأَكُمْ} في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام.
{مّنَ الأرض} إنشاءًا إجماليًا حسبما مر تحقيقه، وقيل: إنشاؤهم من الأرض باعتبار أن المني الذي يتكونون منه من الأغذية التي منشؤها من الأرض، وأيًا مّا كان فإذا ظرف لأعلم وهو على بابه من التفضيل.
وقال مكي: هو بمعنى عالم إذ تعلق علمه تعالى بأحوالهم في ذلك الوقت لا مشارك له تعالى فيه، وتعقب بأنه قد يتعلق علم من أطلعه الله تعالى من الملائكة عليه، وقيل: {إِذْ} منصوب بمحذوف، والتقدير اذكروا {إِذْ أَنشَأَكُمْ} وهو كما ترى {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ} ووقت كونكم أجنة {فِى بُطُونِ أمهاتكم} على أطوار مختلفة مترتبة لا يخفى عليه سبحانه حال من أحوالكم وعمل من أعمالكم التي من جملتها اللمم الذي لولا المغفرة الواسعة لأصابكم وباله، فالجملة استئناف مقرر لما قبلها وذكر {فِى بُطُونِ أمهاتكم} مع أن الجنين ما كان في البطن للإشارة إلى الأطوار كما أشرنا إليه، وقيل: لتأكيد شأن العلم لما أن بطن الأم في غاية الظلمة، والفاء في قوله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} لترتيب النهي عن تزكية النفس على ما سبق من أن عدم المؤاخذة باللمم ليس لعدم كونه من قبيل الذنوب بل لمحض مغفرته تعالى مع علمه سبحانه بصدوره عنكم أي إذا كان الأمر كذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة عن المعاصي بالكلية أو بزكاء العمل وزيادة الخير بل اشكروا الله تعالى على فضله ومغفرته جل شأنه {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} المعاصي جميعًا وهو استئناف مقرر للنهي ومشعر بأن فيهم من يتقيها بأسرها كذا في (الإرشاد)، وقيل: اتقى الشرك، وقيل: اتقى شيئًا من المعاصي، والآية نزلت على ما قيل: في قوم من المؤمنين كانوا يعملون أعمالًا حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا وهذا مذموم منهي عنه إذا كان بطريق الإعجاب، أو الرياء أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به ولا يعد فاعله من المزكين أنفسهم، ولذا قيل: المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر، ولا فرق في التزكية بين أن تكون عبارة وأن تكون إشارة وعدّ منها التسمية بنحو برّة، أخرج أحمد. ومسلم. وأبو داود. وابن مردويه. وابن سعد عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برّة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم سموها زينب» وكذا غير عليه الصلاة والسلام إلى ذلك اسم برة بنت جحش، وتغيير مثل ذلك مستحب وكذا ما يوقع نفيه بعض الناس في شيء من الطيرة كبركة ويسار، والنهي عن التسمية به للتنزيه وقوله صلى الله عليه وسلم كما روى جابر: «إن عشت إن شاء الله أنهى أمتي أن يسموا نافعًا وأفلح وبركة» محمول كما قال النووي على إرادة أنهى نهي تحريم، والظاهر أن كراهة ما يشعر بالتزكية مخصوصة بما إذا كان الإشعار قويًا كما إذا كان الاسم قبل النقل ظاهر الدلالة على التزكية مستعملًا فيها فلا كراهة في التسمية بما يشعر بالمدح إذا لم يكن كذلك كسعيد وحسن، وقد كان لعمر رضي الله تعالى عنه ابنة يقال لها: عاصية فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة كذا قيل، والمقام بعد لا يخلو عن بحث فليراجع، وقيل: معنى لا تزكوا أنفسكم لا يزكى بعضكم بعضًا، والمراد النهي عن تزكية السمعة أو المدح للدنيا، أو تزكية على سبيل القطع، وأما التزكية لإثبات الحقوق ونحوه فهي جائزة، وذهب بعضهم إلى أن الآية نزلت في اليهود.
أخرج الواحدي. وابن المنذر. وغيرهما عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال: «كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا: هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله تعالى في بطن أمها إلا يعلم سعادتها أو شقاوتها» فأنزل الله سبحانه عند ذلك {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} الآية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}.
عطف على قوله: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله} الخ فبعد أن ذكر أن لله أمور الدارين بقوله: {فللَّه الآخرة والأولى} [النجم: 25] انتقل إلى أهم ما يجري في الدارين من أحوال الناس الذين هم أشرف ما على الأرض بمناسبة قوله: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله} [النجم: 30] المراد به الإِشارة إلى الجزاء وهو إثبات لوقوع البعث والجزاء.
فالمقصود الأصلي من هذا الكلام هو قوله: {وما في الأرض} لأن المهم ما في الأرض إذ هم متعلق الجزاء، وإنما ذكر معه ما في السماوات على وجه التتميم للإِعلام بإحاطة ملك الله لما احتوت عليه العوالم كلها ونكتة الابتداء بالتتميم دون تأخيره الذي هو مقتضى ظاهر في التتميمات هي الاهتمام بالعالم العلوي لأنه أوسع وأشرف وليكون المقصود وهو قوله: {ليجزى الذين أساءوا بما عملوا} الآية مقترنًا بما يناسبه من ذكر ما في الأرض لأن المجزيين هم أهل الأرض، فهذه نكتة مخالفة مقتضى الظاهر.
فيجوز أن يتعلق قوله: {ليجزى} بما في الخبر من معنى الكون المقدَّر في الجار والمجرور المخبر به عن {ما في السموات وما في الأرض} أي كائن ملكًا لله كونًا علته أن يجزي الذين أساءوا والذين أحسنوا من أهل الأرض، وهم الذين يصدر منهم الإِساءة والإِحسان فاللام في قوله: {ليجزي} لام التعليل، جعل الجزاء علة لثبوت ملك الله لما في السموات والأرض.
ومعنى هذا التعليل أنّ من الحقائق المرتبطة بثبوت ذلك الملك ارتباطًا أوَّليًّا في التعقل والاعتبار لا في إيجاد فإن ملك الله لما في السماوات وما في الأرض ناشىء عن إيجاد الله تلك المخلوقات والله حين أوجدها عالم أن لها حياتين وأن لها أفعالًا حسنة وسيئة في الحياة الدنيا وعالم أنه مجزيها على أعمالها بما يناسبها جزاء خالدًا في الحياة الآخرة فلا جرم كان الجزاء غايةً لإِيجاد ما في الأرض فاعتبر هو العلة في إيجادهم وهي علة باعثة يحتمل أن يكون معها غيرُها لأن العلة الباعثة يمكن تعددها في الحكمة.
ويجوز أن يتعلق بقوله: {أعلم} من قوله: {هو أعلم بمن ضل عن سبيله} [النجم: 30]، أي من خصائص علمه الذي لا يعزب عنه شيء أن يكون علمه مرتبًا عليه الجزاءُ.
والباءاننِ في قوله: {بما عملوا} وقوله: {بالحسنى} لتعدية فعْلي {ليجزي} و{يجزي} فما بعد الباءَيْن في معنى مفعول الفعلين، فهما داخلتان على الجزاء، وقوله: {بما عملوا} حينئذٍ تقديره: بمثل ما عملوا، أي جزاء عادلًا مماثلًا لما عملوا، فلذلك جعل بمنزلة عين ما عملوه على طريقة التشبيه البليغ.
وقوله: {بالحسنى} أي بالمثوبة الحسنى، أي بأفضل مما عملوا، وفيه إشارة إلى مضاعفة الحسنات كقوله: {من جاء بالحسنة فله خير منها} [النمل: 89].
والحسنى: صفة لموصوف محذوف يدل عليه {يجزي} وهي المثوبة بمعنى الثواب.
وجاء ترتيب التفصيل لجزاء المسيئين والمحسنين على وفق ترتيب إجماله الذي في قوله: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى} [النجم: 30] على طريقة اللف والنشر المرتب.
وقوله: {الذين يجتنبون كبائر الإثم} الخ صفة ل {الذين أحسنوا}، أي الذين أحسنوا واجتنبوا كبائر الإِثم والفواحش، أي فعلوا الحسنات واجتنبوا المنهيات، وذلك جامع التقوى.
وهذا تنبيه على أن اجتناب ما ذكر يعُدّ من الإِحسان لأن فعل السيئات يُنافي وصفهم بالذين أحسنوا فإنهم إذا أتوا بالحسنات كلها ولم يتركوا السيئات كان فعلهم السيئات غير إحسان ولو تركوا السيئات وتركوا الحسنات كان تركهم الحسنات سيئات.
وقرأ الجمهور {كبائر الإثم} بصيغة جمع (كبيرة).
وقرأ حمزة والكسائي {كبيرَ الإِثم} بصيغة الإِفراد والتذكير لأن اسم الجنس يستوي فيه المفرد والجمع.
والمراد بكبائر الإِثم: الآثام الكبيرة فيما شرع الله وهي ما شدد الدين التحذير منه أو ذكر له وعيدًا بالعذاب أو وصف على فاعله حدًا.
قال إمام الحرمين: «الكبائر كل جريمة تؤذن بقلة اكتراثثِ مرتكبها بالدين وبرقة ديانته».
وعطف الفواحش يقتضي أن المعطوف بها مغاير للكبائر ولكنها مغايرة بالعموم والخصوص الوجهي، فالفواحش أخص من الكبائر وهي أقوى إثمًا.
والفواحش: الفعلات التي يعد الذي فعلها متجاوزًا الكبائر مثل الزنى والسرقة وقتل الغيلة، وقد تقدم تفسير ذلك في سورة الأنعام عند قوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} [الأعراف: 33] الآية وفي سورة النساء (31) في قوله: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} واستثناء اللمم استثناء منقطع لأن اللمم ليس من كبائر الإِثم ولا من الفواحش.
فالاستثناء بمعنى الاستدراك.
ووجهه أن ما سمي باللمم ضرب من المعاصي المحذر منها في الدين، فقد يظن الناس أن النهي عنها يلحقها بكبائر الإِثم فلذلك حق الاستدراك، وفائدة هذا الاستدراك عامة وخاصة: أما العامة فلكي لا يعامِل المسلمون مرتكب شيء منها معاملة من يرتكب الكبائر، وأما الخاصة فرحمة بالمسلمين الذين قد يرتكبونها فلا يَقُل ارتكابها من نشاط طاعة المسلم، ولينصرف اهتمامه إلى تجنب الكبائر.
فهذا الاستدراك بشارة لهم، وليس المعنى أن الله رخص في إتيان اللمم.
وقد أخطأ وضاح اليَمن في قوله الناشىء عن سوء فهمه في كتاب الله وتطفله في غير صناعته:
فما نوَّلَتْ حتى تضرعتُ عندها ** وأنبأتُها ما رَخَّص الله في اللَّمم

واللمم: الفعل الحرام الذي هو دون الكبائر والفواحش في تشديد التحريم، وهو ما يندر ترك الناس له فيكتفى منهم بعدم الإكثار من ارتكابه.
وهذا النوع يسميه علماء الشريعة الصغائر في مقابلة تسمية النوع الآخر بالكبائر.
فمثلوا اللمم في الشهوات المحرمة بالقبلة والغمزة.
سمي: اللمم، وهو اسم مصدر أَلمَّ بالمكان إلمامًا إذا حلّ به ولم يُطل المكث، ومن أبيات الكتاب:
قريشي منكمُ وَهَوَايَ مَعْكُم ** وإن كانت زيارتكم لِمامَا

وقد قيل إن هذه الآية نزلت في رجل يسمى نَبْهان التَمَّار كان له دُكان يبيع فيه تمرًا (أي بالمدينة) فجاءته امرأة تشتري تمرًا فقال لها: إنّ داخل الدُكان ما هو خير من هذا، فلما دخلت راودها على نفسها فأبت فندم فأتى النبي وقال: ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته (أي غصبًا عليها) إلا الجماع، فنزلت هذه الآية، أي فتكون هذه الآية مدنية أُلحقت بسورة النجم المكية كما تقدم في أول السورة.
والمعنى: أن الله تجاوز له لأجل توبته.
ومن المفسرين من فسر اللَّمم بِالهَمّ بالسيئة ولا يفعل فهو إلمام مجازي.
وقوله: {إن ربك واسع المغفرة} تعليل لاستثناء اللمم من اجتنابهم كبائر الإِثم والفواحش شرطًا في ثبوت وصف {الذين أحسنوا} لهم.
وفي بناء الخبر على جعل المسند إليه {ربك} دون الاسم العلم إشعار بأن سعة المغفرة رفق بعباده الصالحين شأن الرب مع مربوبه الحق.
وفي إضافة (رب) إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم دون ضمير الجماعة إيماء إلى أن هذه العناية بالمحسنين من أمته قد حصلت لهم ببركته.
والواسع: الكثير المغفرة، استعيرت السعة لكثرة الشمول لأن المكان الواسع يمكن أن يحتوي على العدد الكثير ممن يحلّ فيه قال تعالى: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلمًا} وتقدم في سورة غافر (7).